الفصل الثاني تماطلون بالعمل و تطمعون في بلوغ الأمل
اخواني، الى كم تماطلون بالعمل، و تطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتب مدّخر ليوم الحساب. وأنشدوا:
ولو أننا اذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنّا اذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء
يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يغرّنّكم قول الله عز وجل:{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها} الأنعام 160، فان السيئة وان كانت واحدة، فانها تتبعها عشر خصال مذمومة:
أولها: اذا أذنب العبد ذنبا، فقد أسخط الله وهو قادر عليه.
والثانية: أنه فرّح ابليس لعنه الله.
والرابعة: أنه تقرّب من النار.
والخامسة: أنه قد آذى الحفظة.
والثامنة: أنه قد احزن النبي صلى الله عليه وسلم في قبره.
والتاسعة: أنه أشهد على نفسه السموات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان.
والعاشرة: أنه خان جميع الآدميين، وعصى رب العالمين.
ويروى عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه قال: خرجت أريد الحجاز ولم أصحب أحدا من الناس، فبينما أنا سائر، اذ وقعت في أرض صحراء، وقد نفذ زادي، فأشرفت على الهلاك، اذ لاحت لي شجرة في وسط الصحراء دانية الفروع، متدلية الأغصان، كثيرة الأوراق، فقلت في نفسي: أسير نحو هذه الشجرة، فأكون في ظلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فلما وصلت الى الشجرة، ودنوت منها، وأردت الدخول في ظلها، فأخذ غصن من أغصانها بركوتي، فانهرق الماء الذي كان بقي لي فيها أحيي به رمقي، فأيقنت بالهلاك، وطرحت نفسي في ظل الشجرة، وبقيت أنتظر ملك الموت ليقبض روحي، فاذا أنا بصوت حزين وهو يقول: الهي وسيدي ومولاي، ان كان هذا رضاك مني، فزد حتى ترضى عني يا أرحم الراحمين.
فقمت وجعلت أمشي نحو الصوت، فاذا أنا بشخص حسن الصورة، وهو ملقى على الرمل، والنسور قد أحدقت به تنهش من لحمه، فسلمت عليه فردّ السلام، وقال لي: يا ذا النون، لما نفذ الزاد، وانهرق الماء، أيقنت بالموت والفناء، فجلست عند رأسه، وجعلت أبكي رحمة لبكائه، وشفقة لما رأيت منه.
فبينما أنا كذلك، اذ انا بقصعة من الطعام وضعت بين يدي، فوكز الأرض بعرقوبه، فاذا بعين من الماء قد تفجرت، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فقال لي: يا ذا النون، كل واشرب، لا بد لك من الوصول الى بيت الله الحرام، ولكن يا ذا النون لي اليك حاجة، فان قضيتها فلك الأجر والثواب، فقلت: وما هي؟ قال: اذا انا مت، فاغسلني وادفني، واسترني من الوحش والطير، وسر فاذا قضيت الحج، فانك تصل الى مدينة بغداد، وتدخل من باب الزعفران، فانك تجد هنالك الصبيان يلعبون، وعليهم ألوان الثياب، فتجد هنالك شابا، صغير السن، ليس يشغله شيء عن ذكر الله تعالى، قد تحزّم بخرقة، وجعل على كتفيه أخرى، في وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، فاذا وجدته فذلك ولدي وقرّة عيني، فأقرئه مني السلام.
قال ذا النون: فلما فرغ من كلامه، سمعته يقول: أشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وشهق شهقة فارق الدنيا رحمة الله عليه، فقلت: انا لله وانا اليه راجعون، وكان معي قميص في وعائي لا أفارقه فغسلته من ذلك الماء، وكفنته وواريته التراب، وسرت الى بيت الله الحرام وقضيت مناسك الحج، وخرجت الى زيارة قبر رسول الله، فلما قضيت الزيارة، وسرت الى مدينة بغداد، فدخلتها في يوم عيد، فاذا انا الصبيان يلعبون وعليهم ألوان الثياب، فنظرت فرأيت الصبي الموصوف جالسا لا يشغله الموهوب عن علام الغيوب، وقد ظهرت على وجهه الأحزان، وفي وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، وهو يقول:
الناس كلهم للعيد قد فرحوا وقد فرحت أنا بالواحد الصمد
الناس كلهم للعيد قد صبغوا وقد صبغت ثياب الذل والكمد
الناس كلهم للعيد قد غسلوا وقد غسلت أنا بالدمع للكبد
قال ذو النون: فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال: مرحبا برسول أتى من أبي، فقلت له: من أخبرك باني رسول أتيتك من أبيك؟ قال: الذي أخبرني أنك دفنته بالصحراء. يا ذا النون، أتزعم أنك دفنت أبي بالصحراء؟ والله ان أبي رفع الى سدرة المنتهى، ولكن سر معي الى جدتي.
فأخذ بيدي وسار معي الى منزله، فلما وصل الى الباب نقر نقرا خفيفا، فاذا بالعجوز قد خرجت الينا، فلما رأتني، قالت مرحبا بمن تمتع بالنظر في وجه حبيبي وقرّة عيني. قلت لها: من أخبرك بأنك رأيته؟ قالت: الذي أخبرني بأنك كفنته وأنّ الكفن مردود عليك. يا ذا النون، فوعزة ربي وجلاله، ان خرقة ابني يباهي الله بها الملائكة في الملأ الأعلى.
ثم قالت: يا ذا النون، صف لي كيف تركت ابني وقرة عيني وثمرة فؤادي؟ قلت لها: تركته في الفيافي والقفار بين الرمال والأحجار، وقد حظي بما أمل من العزيز الغفار.
فلما سمعت العجوز ذلك، ضمّت الصبي الى صدرها، وغابت عني، وحجبت عن نظري، فلا ادري: أفي السماء صعد بهما، أو في جوف الأرض هبط بهما، فصرت أطلبهما في أركان الدار، فما وجدتهما، فسمعت هاتفا يقول: يا ذا النون لا تتعب نفسك، فلقد طلبتهم الأملاك، فلم يجدوهم. فقلت: أين صاروا، فقال لي: ان الشهداء يموتون بسيوف المشركين، وهؤلاء المحبون يموتون بالشوق الى رب العالمين، فيحملون في مركب من نور في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قال ذا النون: فتفقدت الجراب، فوجدت الكفن الذي كفنته فيه مطويّا كما كان أولا، رضي الله عنه ونفعنا ببركاتهم.
اخواني، الى كم تماطلون بالعمل، و تطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتب مدّخر ليوم الحساب. وأنشدوا:
ولو أننا اذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنّا اذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء
يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يغرّنّكم قول الله عز وجل:{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها} الأنعام 160، فان السيئة وان كانت واحدة، فانها تتبعها عشر خصال مذمومة:
أولها: اذا أذنب العبد ذنبا، فقد أسخط الله وهو قادر عليه.
والثانية: أنه فرّح ابليس لعنه الله.
والرابعة: أنه تقرّب من النار.
والخامسة: أنه قد آذى الحفظة.
والثامنة: أنه قد احزن النبي صلى الله عليه وسلم في قبره.
والتاسعة: أنه أشهد على نفسه السموات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان.
والعاشرة: أنه خان جميع الآدميين، وعصى رب العالمين.
ويروى عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه قال: خرجت أريد الحجاز ولم أصحب أحدا من الناس، فبينما أنا سائر، اذ وقعت في أرض صحراء، وقد نفذ زادي، فأشرفت على الهلاك، اذ لاحت لي شجرة في وسط الصحراء دانية الفروع، متدلية الأغصان، كثيرة الأوراق، فقلت في نفسي: أسير نحو هذه الشجرة، فأكون في ظلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فلما وصلت الى الشجرة، ودنوت منها، وأردت الدخول في ظلها، فأخذ غصن من أغصانها بركوتي، فانهرق الماء الذي كان بقي لي فيها أحيي به رمقي، فأيقنت بالهلاك، وطرحت نفسي في ظل الشجرة، وبقيت أنتظر ملك الموت ليقبض روحي، فاذا أنا بصوت حزين وهو يقول: الهي وسيدي ومولاي، ان كان هذا رضاك مني، فزد حتى ترضى عني يا أرحم الراحمين.
فقمت وجعلت أمشي نحو الصوت، فاذا أنا بشخص حسن الصورة، وهو ملقى على الرمل، والنسور قد أحدقت به تنهش من لحمه، فسلمت عليه فردّ السلام، وقال لي: يا ذا النون، لما نفذ الزاد، وانهرق الماء، أيقنت بالموت والفناء، فجلست عند رأسه، وجعلت أبكي رحمة لبكائه، وشفقة لما رأيت منه.
فبينما أنا كذلك، اذ انا بقصعة من الطعام وضعت بين يدي، فوكز الأرض بعرقوبه، فاذا بعين من الماء قد تفجرت، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فقال لي: يا ذا النون، كل واشرب، لا بد لك من الوصول الى بيت الله الحرام، ولكن يا ذا النون لي اليك حاجة، فان قضيتها فلك الأجر والثواب، فقلت: وما هي؟ قال: اذا انا مت، فاغسلني وادفني، واسترني من الوحش والطير، وسر فاذا قضيت الحج، فانك تصل الى مدينة بغداد، وتدخل من باب الزعفران، فانك تجد هنالك الصبيان يلعبون، وعليهم ألوان الثياب، فتجد هنالك شابا، صغير السن، ليس يشغله شيء عن ذكر الله تعالى، قد تحزّم بخرقة، وجعل على كتفيه أخرى، في وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، فاذا وجدته فذلك ولدي وقرّة عيني، فأقرئه مني السلام.
قال ذا النون: فلما فرغ من كلامه، سمعته يقول: أشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وشهق شهقة فارق الدنيا رحمة الله عليه، فقلت: انا لله وانا اليه راجعون، وكان معي قميص في وعائي لا أفارقه فغسلته من ذلك الماء، وكفنته وواريته التراب، وسرت الى بيت الله الحرام وقضيت مناسك الحج، وخرجت الى زيارة قبر رسول الله، فلما قضيت الزيارة، وسرت الى مدينة بغداد، فدخلتها في يوم عيد، فاذا انا الصبيان يلعبون وعليهم ألوان الثياب، فنظرت فرأيت الصبي الموصوف جالسا لا يشغله الموهوب عن علام الغيوب، وقد ظهرت على وجهه الأحزان، وفي وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، وهو يقول:
الناس كلهم للعيد قد فرحوا وقد فرحت أنا بالواحد الصمد
الناس كلهم للعيد قد صبغوا وقد صبغت ثياب الذل والكمد
الناس كلهم للعيد قد غسلوا وقد غسلت أنا بالدمع للكبد
قال ذو النون: فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال: مرحبا برسول أتى من أبي، فقلت له: من أخبرك باني رسول أتيتك من أبيك؟ قال: الذي أخبرني أنك دفنته بالصحراء. يا ذا النون، أتزعم أنك دفنت أبي بالصحراء؟ والله ان أبي رفع الى سدرة المنتهى، ولكن سر معي الى جدتي.
فأخذ بيدي وسار معي الى منزله، فلما وصل الى الباب نقر نقرا خفيفا، فاذا بالعجوز قد خرجت الينا، فلما رأتني، قالت مرحبا بمن تمتع بالنظر في وجه حبيبي وقرّة عيني. قلت لها: من أخبرك بأنك رأيته؟ قالت: الذي أخبرني بأنك كفنته وأنّ الكفن مردود عليك. يا ذا النون، فوعزة ربي وجلاله، ان خرقة ابني يباهي الله بها الملائكة في الملأ الأعلى.
ثم قالت: يا ذا النون، صف لي كيف تركت ابني وقرة عيني وثمرة فؤادي؟ قلت لها: تركته في الفيافي والقفار بين الرمال والأحجار، وقد حظي بما أمل من العزيز الغفار.
فلما سمعت العجوز ذلك، ضمّت الصبي الى صدرها، وغابت عني، وحجبت عن نظري، فلا ادري: أفي السماء صعد بهما، أو في جوف الأرض هبط بهما، فصرت أطلبهما في أركان الدار، فما وجدتهما، فسمعت هاتفا يقول: يا ذا النون لا تتعب نفسك، فلقد طلبتهم الأملاك، فلم يجدوهم. فقلت: أين صاروا، فقال لي: ان الشهداء يموتون بسيوف المشركين، وهؤلاء المحبون يموتون بالشوق الى رب العالمين، فيحملون في مركب من نور في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قال ذا النون: فتفقدت الجراب، فوجدت الكفن الذي كفنته فيه مطويّا كما كان أولا، رضي الله عنه ونفعنا ببركاتهم.